الكاتب: هاني المصري
الانتخابات شكل من أشكال ممارسة الحريّة، وإحدى تجليات تجسيد حقوق الإنسان بالمشاركة والاختيار والتعبير عن الرأي.
والانتخابات جزء من الديمقراطيّة، فلا ديمقراطيّة من دون انتخابات، ولكن الانتخابات لوحدها لا تعني الديمقراطيّة، والديمقراطيّة أرقى شكل توصلت إليه البشريّة للحكم، باعتبارها حكم الشعب للشعب، حكم الأغلبيّة مع ضمان حق الأقليّة بالمعارضة والتعبير عن رأيها بكل حريّة، فلا ديمقراطيّة من دون الحق الكامل للمعارضة بالمعارضة، مع ضمان حقها باستلام السلطة بوسائل سلميّة قانونيّة.
إن الديمقراطيّة السياسيّة لا يمكن ممارستها وتحقيق مصالح الشعب وأمانيه وأحلامه من دون مبدأ تداول السلطة، وفصل السلطات واستقلالها، وحريّة الإعلام، ومن دون سيادة.
تأسيسًا على ما سبق، لا ديمقراطيّة ولا انتخابات حرة ونزيهة تحت الاحتلال، لأنه صاحب السيادة، وأن شرط ممارسة الانتخابات هو الحريّة، ولا حريّة للمواطن إذا كان الوطن الذي يعيش فيه محتلًا. وعندما يكون هناك احتلال، فلا بد من وحدة الشعب وزج كل قواه وطاقاته وكفاءاته وإبداعاته لتصب في مجرى إزالة الاحتلال.
وإذا كان هدف إزالة الاحتلال بحاجة إلى جهود الجميع، فلا معنى للتفريق بينهم تحت يافطة الانتخابات، التي تعني إطلاق المنافسة في حدها الأقصى، وسعي كل حزب للفوز وإظهار أنه الأفضل، ونقد الأحزاب الأخرى حتى يفوز بالأغلبيّة والحكم.
لهذ السبب لم تشهد البلدان المحتلة انتخابات باستثناء فلسطين، وهذا أمر شاذ كان متلائمًا مع اتفاق أوسلو الذي مس بوحدة القضيّة والشعب والأرض.
فبعد تأسيس السلطة وفي ضوء التخلي عن المقاومة وإدانتها قبل أن تحقق أهدافها، بالرغم من أنها كانت مصدر الشرعيّة للمنظمة، كان لا بد من اللجوء إلى صناديق الاقتراع لمنح الشرعيّة للسلطة المقامة، وإلا سيكون مصدر الشرعيّة الوحيد اتفاق أوسلو، ومدى رضا الاحتلال عن السلطة الناشئة.
الأمانة تقتضي القول إن "أبو عمار" عندما وافق على اتفاق أوسلو كان يعتقد أنه الطريق المتاح لدحر الاحتلال وإقامة الدولة، وعندما انتهت المرحلة الانتقاليّة في العام 1999 وانتهت معها الفترة القانونيّة للمجلس التشريعي الأول؛ رفض إجراء انتخابات تشريعيّة جديدة، لأنها إذا تكررت تعطي الشرعيّة للاحتلال وتكرس التعايش معه، وتصوره كأنه احتلال حضاري، ويمكّن الشعب المحتل من ممارسة حقوقه، بالرغم من أن موافقة إسرائيل على إجراء الانتخابات جاءت لأنها جزء من عمليّة سياسيّة استفادت منها إسرائيل فوائد ضخمة.
فـأبو عمار وافق على انتخابات لمرة واحدة معتقدًا أنها ستكون بوابة لإقامة الدولة. ولكنّ خطأ "أبو عمار" كان في أنه لم يرفق رفضه إجراء الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة لمرة ثانية بإعلان انتهاء أوسلو، لأنه لم يحقق الأهداف الفلسطينيّة منه، ولأن إسرائيل تجاوزته عندما لم تطبق القسم الأعظم من التزاماتها فيه.
أكثر من ذلك، مددت المنظمة بوصفها المرجعيّة السياسيّة للسلطة المرحلة الانتقاليّة تمديدًا مفتوحًا، الأمر الذي جعل مدة عمل المجلس التشريعي الأول تستمر عشر سنوات كاملة، وليس ثلاث سنوات كما نص اتفاق أوسلو وملحقاته.
إذا كانت الانتخابات تحت الاحتلال تكرسه، وهذا صحيح، فإن استمرار الفترة الانتقاليّة لأجل غير مسمى، وبقاء السلطة من دون مجلس تشريعي منتخب دوريًا، ويمارس الرقابة، ويصدر التشريعات، ويمنح الثقة ويحجبها عن الحكومة؛ يجعلها تكرس الاحتلال وتمنحه الشرعيّة بصورة أكبر.
بعد موت ياسر عرفات، وبعد تأكد وصول المفاوضات وما يسمى "عمليّة السلام" واتفاق أوسلو إلى طريق مسدود، كان لا بد من شق مسار سياسي جديد، وبدلًا من ذلك تم إعادة إنتاج أوسلو من خلال منح السلطة بقيادتها الجديدة شرعيّة شعبيّة، فأجريت الانتخابات الرئاسيّة، ومن ثم الانتخابات التشريعيّة، التي كان من أهدافها أيضا ضم "حماس" إلى السلطة وجعلها تلتزم بالاتفاقيات المبرمة، وتتحول إلى أقليّة في المجلس التشريعي تستطيع أن تعارض كما تشاء، ولكنها ملزمة بالانصياع لقرارات الأغلبيّة وللالتزامات التي تلتزم بها السلطة.
وجاءت حسابات البيدر غير مطابقة لحسابات الحقل بحصول "حماس" على الأغلبيّة في مقاعد المجلس التشريعي، الأمر الذي أدى إلى اختلال في السلطة ووصل إلى الانقسام الذي لا زلنا نعاني منه حتى الآن، وسنبقى نعاني منه ما دمنا نلتزم بهذه الالتزامات المجحفة، وما دام على "حماس" أن تستكمل "اعتدالها"، حتى تقبل كطرف في النظام السياسي الفلسطيني.
وبسبب الانقسام ووقف ما يسمى "عمليّة السلام" لم تجر الانتخابات للمرة الثالثة بالرغم من مرور أربع سنوات على انتهاء الفترة الرئاسيّة، وثلاث سنوات على فترة المجلس التشريعي، ما يطرح علامات سؤال على شرعيّة السلطة وقدرتها على الاستمرار.
ورغم أن الاحتلال غض النظر عن إجراء الانتخابات في أعوام 1996 و2005 و2006؛ إلا أنه مارس الاعتقالات، ومنع حريّة الحركة والدعاية الانتخابيّة وتنقل المرشحين بين الضفة وغزة، وبين القدس وبقيّة أنحاء الضفة، وقام بعد الانتخابات الأخيرة باعتقالات طالت عشرات النواب وبعض الوزراء، بعضهم لا يزال معتقلًا حتى الآن، وصادر العمليّة الديمقراطيّة بصورة من المفترض أن تدفع الفلسطينيين للتفكير مليًا في كيفيّة توفير شبكة أمان، وشروط حريّة ونزاهة الانتخابات قبل إجرائها، وبما يحد من إمكانيّة مصادرة الاحتلال للانتخابات قبل وأثناء وبعد إجرائها.
في هذا السياق، لا يمكن أن تكون الانتخابات في فلسطين المحتلة وفي ظل غياب مسار سياسي قادر على إنهاء الاحتلال ومواصلة إسرائيل لسياسة تعميق الاحتلال والاستيطان هي مفتاح المصالحة والآليّة الوحيدة لإنهاء الانقسام، إلا إذا جاءت ووظفت في سياق استخدامها كوسيلة لحسم الصراع وتأجيجه، ما يجعلها تؤدي إلى إدامة الانقسام وتعميقه.
إن إجراء الانتخابات سيكون قفرة في المجهول وخطوة لتكريس الانقسام إذا تمت من دون الاتفاق على مرجعيّة وطنيّة تتضمن "ركائز المصلحة الوطنيّة العليا"، التي تشمل ما يَجْمَعُ الفلسطينيين ويوحدهم من أهداف وحقوق، وأشكال نضال، وتحالفات، وإستراتيجيّة مجابهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضيّة الفلسطينيّة.
أي إذا جاءت الانتخابات من دون أن تكون جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال ومن أجل تحقيق أهدافه بالحريّة والعودة والاستقلال وتقرير المصير؛ ستؤدي إلى نتائج كارثيّة.
فالانتخابات ضروريّة إذا ساهمت في خدمة معركة الشعب الفلسطيني لدحر الاحتلال وليس لتكريسه وإعطائه الشرعيّة والتعايش معه، وهذا لا يمكن إلا إذا كانت ستجري في إطار إجماع وطني وموحد للنظام السياسي بمختلف مكوناته.
الانتخابات من دون وحدة تفرّق، وفي إطار الوحدة تغني الحركة الوطنيّة، وتعمق التنوع والتعدديّة التي هي مصدر المناعة والتطور الذي جعل القضيّة الفلسطينيّة لا تزال حيّة رغم كل ما تعرضت له من أخطار ومؤامرات ومجازر وحروب وعدوان.
الانتخابات يجب أن تكرس وحدة الشعب، وهذا لا يكون من دون أن تتزامن انتخابات المجلس الوطني مع انتخابات المجلس التشريعي. وإذا كانت انتخابات المجلس الوطني متعذرة فيجب العمل بجديّة لجعلها ممكنة، وليس الإعلان عن عدم إمكانيّة إجرائها في الأردن وسوريا ولبنان والخليج من دون السعي الجاد لإجرائها.
وهل ستكون انتخابات لسلطة الحكم الذاتي أم انتخابات للدولة الفلسطينيّة بعد الحصول على "الدولة المراقبة"؟
وإلى أن تُجرى الانتخابات التي يعبر فيها الشعب الفلسطيني عن إرادته الحرة؛ يمكن أن تستمِد القيادة الفلسطينيّة والمؤسسات المختلفة الشرعيّة مما تبقى من شرعيّة المنظمة ومن الالتزام بأهداف وحقوق الشعب الفلسطيني، وممارسة المقاومة بمختلف أشكالها. فشرعيّة المقاومة أسبق وأقوى وأعلى من شرعيّة صناديق الاقتراع، وشرعيّة المنظمة في مرحلة النهوض والكفاح والتمسك بالأهداف أقوى بكثير من شرعيتها في مرحلة السقوط وأوسلو، الذي فصل الشعب عن الأرض وعن القضيّة، وقسم الأرض إلى أجزاء، والشعب إلى "شعوب"، والقضيّة إلى قضايا، وحلها بحاجة إلى مراحل.
وحتى لا يكون عدم ممارسة الانتخابات سببًا في إعادة إنتاج نظام المحاصصة الفصائليّة بصورة فوقيّة، وبنفس مساوئه السابقة؛ يمكن إلى حين إجراء الانتخابات الأخذ بمعايير محددة لمعرفة أحجام الفصائل، مثل مدى تمثيلها في الاتحادات الشعبيّة، والنقابات المهنيّة، وفي المجالس المحليّة، واللجان الشعبيّة في المخيمات والجمعيات الخيريّة، وحجم مهرجاناتها، ومظاهراتها، وأسراها، وشهدائها، وجرحاها، أي إسهاماتها في النضالات المختلفة داخل الوطن وخارجه.
لقد كانت "فتح" تمثل الأغلبيّة من دون انتخابات، لأنها كانت تقاوم وتجسد الهويّة وتلتزم بالأهداف والحقوق. إن هذا لا يقلل من أهميّة الانتخابات كوسيلة للتمثيل الحقيقي للشعب، ولكن إذا كانت الانتخابات الحرة والنزيهة متعذرة وتحتاج إلى موافقة الاحتلال والاستجابة لشروطه أو لبعضها، أو إذا جاءت ضمن عمليّة تخدمه، فلا لمثل هذه الانتخابات .. ونعم للتوافق الوطني، الذي يقوم على برنامج كفاحي يجسد القواسم المشتركة، ويركز على المقاومة وكل أشكال العمل السياسي، ويتعامل مع الانتخابات كشكل من أشكال الصراع ضد الاحتلال، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بجميع أفراده وفي جميع أماكن تواجده.
قال البروفيسور مشتاق خان، إذا كانت الحريّة والديمقراطيّة والانتخابات والتنمية والإصلاح يمكن أن تتحقق تحت الاحتلال، فلماذا يريد الشعب الواقع تحت الاحتلال إزالة الاحتلال؟!