اطلس- لم تكن غالبية الناس تعرف اسم صحيفة تشارلي ابيدو الفرنسية قبل أن تتعرض الأسبوع الماضي إلى هجوم أسفر عن مقتل اثنين من رؤساء تحريرها وعدد من العاملين فيها ،
وقبل الخوض في هذا الموضوع لا بد من التأكيد بأننا نرفض وبكل حزم أي اعتداء على الأبرياء لأن ديننا الاسلامي الحنيف يحرم القتل ويأمر بتنفيذ حد القتل على كل من يقتل نفسا بريئة بغير ذنب ، وجزاؤه في الآخرة عذاب جهنم خالدا فيها أبدا. ونحن إذ ندين ونرفض القتل بسبب قناعاتنا الدينية فإننا أيضا نقر بأن هذه القناعات تلتقي بل وتؤسس للقناعة الأخلاقية التي ترفض القتل والاعتداء على الأبرياء ، وهذه أمور لا تقبل في ديننا الجدل أو المعايير المزدوجة.
ومع ذلك فلا بد من التساؤل عن الظروف والحيثيات التي سبقت عملية الهجوم على الجريدة وأعقبتها. فقد كانت هذه الجريدة على وشك الافلاس حيث ابتعد عنها الكثيرون من قرائها بعد أن انتهجت لنفسها خطا يقوم على ازدراء الأديان ونشر الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من الأنبياء وتظهرهم في أوضاع جنسية مشينة وكذلك نشر الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من السود وتثير النزعة العنصرية والطائفية علاوة على المساس بمشاعر المؤمنين المسلمين والنصارى على حد سواء.
والغريب أن الذين انبروا للدفاع عن الصحيفة ضد الهجوم الذي وقع عليها تذرعوا بحرية الرأي والتعبير واعتبروا ما تنشره الصحيفة من ازدراء وقذف وقدح بالأديان السماوية وإثارة للعنصرية إنما هو أمر يتم تحت غطاء حرية التعبير المقدسة التي تعتبر أهم ركائز الديمقراطية في أي بلد يدين بالديمقراطية والتعددية. ولكن هؤلاء الذين يتغنون بالديمقراطية وحرية التعبير يرفضون وبكل شدة أي رأي مخالف لرأيهم يحاول أن يفسر لهم الدوافع والأسباب التي أدت إلى حدوث ما حدث حتى لو كان ذلك الرأي ضد ما حدث فهم مع حرية التعبير لتلك الصحيفة في نشر أنفاسها الكريهة ، وضد حرية التعبير لغيرها.
ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد ، بل إن فرنسا التي تدعي الديمقراطية وحرية التعبير هي نفسها التي تفرض عقوبة السجن ثلاث سنوات على كل من يشكك أو ينكر جرائم النازية حتى لو كان باحثا أكاديميا أو مؤرخا يبحث عن الحقائق دون أية دوافع أو أغراض سياسية . ففي مجال إنكار النازية ، لا توجد حرية للتعبير ولا يسمح لأحد بأن يناقش أو يفكر أو يبحث !
والأغرب من ذلك ، هو أن فرنسا التي خرجت ضد الهجوم على تلك الصحيفة استضافت مسيرة وصفتها بأنها ضد الارهاب ومع حرية التعبير ، وتقدمها العديد من زعماء العالم من بينهم عدد لا يستهان به من الزعماء الذين قمعوا حرية التعبير في بلادهم وزجوا بالصحفيين وأصحاب الرأي في السجون ، ومن بينهم أيضا من قتلوا الصحفيين ودمروا البيوت فوق رؤوس الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء وأبادوا عائلات عن بكرة أبيها ثم جاؤوا إلى باريس للتظاهر ضد الأرهاب وضد منع حرية التعبير !!..
والغريب أيضا هو أن يخرج عدد من الناطقين العرب والمسلمين ليدينوا الهجوم على الصحيفة التي تروج للعنصرية وتسيء للأنبياء والرسل دون أن يقولوا كلمة حق واحدة من أن هذه الصحيفة هي التي تروج للفتنة والعنصرية وإثارة الفتنة والأحقاد ، فلماذا نضع أنفسنا في قفص الاتهام ؟!
الشابان اللذان قاما بالهجوم على مقر صحيفة تشارلي ابيدو لم يأتيا من أي بلد مسلم أو عربي بل هما شابان فرنسيان ولدا في فرنسا وتعلما في مدارسها ورضعا من ثقافتها وتربيتها. وإذا كانت قيم احترام الذات والحقوق الانسانية والعدالة والديمقراطية التي نشئوا عليها في حضن الثقافة الفرنسية هي التي أوصلتهم إلى القناعة بأن هذه الصحيفة لا تقيم وزنا لهذه القيم فإن أحدا لا يستطيع تجيير محصلة ما قاما به إلى خارج الحدود الفرنسية. وإذا كان هناك من يريد أن يبحث عن الأسباب التي دفعتهما للقيام بما قاما به فإن عليه أن يبحث أولا عن السبب الذي منع اندماج هذين الشابين بالمجتمع الفرنسي ، ومنعهما من الإحساس بالمساواة والعدالة ودفعهما للسير في الطريق الذي سارا به ، فالفشل في ذلك هو من مسؤولية الدولة التي نشأ بها هؤلاء الشبان وأمثالهم .
إن تورط العديد من الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا في الأحداث الجارية على طول العالم الاسلامي وعرضه وفي قلبه العديد من الدول العربية ليثبت بأن التدخل في شؤون الدول العربية والاسلامية وإثارة الفتن والحروب الداخلية فيها وتمزيق بناها الاجتماعية وتدمير قواها الاقتصادية والعسكرية لا يمكن بل ويستحيل أن يظل مقتصرا على داخل حدود تلك الدول ولا بد أن يطفح إلى خارجها فيجد التعبير عنه عبر حدود الدول الأوروبية التي تسببت أو تورطت فيه. فالذي يحدث في سوريا وليبيا هذه الأيام ليس بالحدث الداخلي وإنما أصابع أوروبا موغلة فيه حتى العظم ، بل وما زالت. ولقد أخطأت فرنسا وغيرها من الدول الاوروبية حين تبنت السياسة التي رسمها الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الذي لم يتردد في القول بأنه يشن حربا صليبية ، والذي ارتكب جريمة تدمير العراق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقتل وتشريد مئات الآلاف بل الملايين وإخراج المارد الطائفي من القمقم والذي تمدد على مساحة المنطقة عبر الحدود السورية وباتجاه الخليج العربي وبات كابوسا يقض مضاجع الأوروبيين وغيرهم .
وكذلك فإن فشل بعض هذه الدول في فهم الاسلام والمسلمين ووقوعها في فخ إسرائيل والأبواق الموالية لها بوصم الارهاب بالارهاب الأسلامي هو المسؤول عن استمرار الأحداث المؤسفة التي وقعت ، والذي يقتضي من هذه الدول أن تفهم بأن الاسلام هو دين القيم الأخلاقية والتسامح ورفض العنف والارهاب والحرص على حياة الانسان أيا كان دينه وعرقه ، وأن عليها أن تفهم أيضا بأن الارهاب الذي يمارسه بعض من يدعون الاسلام لا صلة له بالاسلام ولا بالمسلمين ، وعليها أن تقف في خندق واحد ضد المساس بالمعتقدات والمشاعر الدينية للمسلمين ولغير المسلمين. ولا يجوز ولا يمكن لأحد أن يسمح بالمساس بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام بحجة أن هذا المساس هو ممارسة للحق في حرية التعبير. وعليهم أن يفهموا ما يقوله المثل العامي : " من يقرع الباب يسمع الجواب ".
الارهاب لا دين ولا هوية له ، ومحاولة إلصاقه بالدين الاسلامي هو جريمة بحد ذاتها لا يجوز التغاضي عنها أو السكوت عليها ، وعلى من يريدون محاربة الارهاب الدولي أن يبحثوا عن أسبابه بدءا بأنفسهم وسياساتهم وممارساتهم.