اطلس كتب عوض عبد الفتاح: مسيرة الانسان على الأرض، مسيرة شقاء وحروب وموت، وصراع، وأمراض، كما انها مسيرة تقدم وتطور اجتماعي وروحي وثقافي وتكنولوجي مذهل
هذا ما تقوله كتب التاريخ، وهذا ما نشهده اليوم. تشكل، على مدار عشرات الاف السنين، مجتمع انساني منظم ولكنه زاخر بتناقضاته، وفجواته، في آماله وانكساراته.
وعاشت الأجيال المتلاحقة تقلبات حادة في حياتها الجماعية والفردية. فمع نمو المجتمعات وتوسعها، ونشوء المجتمع السياسي تعقدت الحياة، ونشأت حاجات جديدة، وتوسعت طموحات هذه الاجيال، مما الزمها بابتكار آليات لإدارة حياتها، وحل خلافاتها، وتوزيع الثروة ومناطفزالنفوذ والسيادة. لم تسر الحياة بطريقة خطية، مستقيمة. لكن حالات التمرد والثورة طالت كل المجتمعات، والتي تبدلت طبيعتها ومطالبها بحسب طبيعة كل حقبة تاريخية، وطبيعة من يمسك بدفة الحكم، سواء كانت طبقة اجتماعية، او قبيلة، او فرد مستبد . وظهر خلال كل هذه الحقب، مصلحون، وانبياء، ومفكرون، ورجال دين، وفلاسفة وقادة مع رسائل إما لإصلاح مجتمعاتهم المحلية، أو إصلاح الإنسان، أو الاثنين معاً.
عرفت البشرية في القرنين الماضيين، تطوراً صناعياً وتكنولوجياً خيالياً، وفي زيادة الإنتاج بنسب مذهلة ساهمت في رفع مستوى المعيشة والراحه المادية، وأنقذت مئات الملايين من الفقر والمرض والعوز. ورافق هذا التقدم تطورا عميقا في النظام السياسي، من حيث فصل السلطات، وتعزيز حرية الناس والأفراد في إطار نظام ديمقراطي، مدعوم بآليات تحميه من السلطوية او الدكتاتورية والاستبداد، والانقلابات. وهذا التطور السياسي لم يأت بضربة واحدة بل خلال مسيرة تراكمية طويلة إمتدت لأكثر من ثلاثة قرون، مسيرة تخللتها حروب وثورات اجتماعية وعلمية وكشوفات، وصراعات دامية داخلية وخارجية، انتهت بترسيخ عقد اجتماعي يحتكم اليه الجميع.
انطلق هذا التطور الحديث من أوروبا، التي ظلت تعيش منذ إضمحلال الإمبراطورية الرومانية والاغريقية حتى بدايات القرن السادس عشر، ما عرف بالعصور الوسطى المظلمة. لكن هذه العصور المظلمة( الأوروبية) كانت مظلمة لاوروبا وليس لكل المجتمعات البشرية. فالحقبة نفسها كانت شهدت ثورة العرب، وتحقّقْ وحدتهم، وازدهار حضارتهم، وتسيد العالم، وهي ثورة اطلقها النبي العربي الثائر، محمد بن عبد الله، من جزيرة العرب، تحت راية الإسلام، الذي أطّر العرب في مشروع وحدوي، وحدة حول إله واحد متسامي، على أنقاض عبادة الأوثان وقد كانت كل قبيلة تعبد وثناً خاصاً بها، ومشروع سياسي واحد، بديلا عن التشتت والصراع القبلي، وإعادة الاعتبار للانسان . وقد أخذ الإسلام من تراث العرب القديم، ومن دياناتهم المسيحية واليهودية، ما معناه أنه محدث لما كان، وفاتحا الباب لحياة روحية واجتماعية، مساواتية، حديثة، لا تميز بين البشر، مقارنة مع تلك الأزمنة. فالجهل لم يكن مطلقا قبل الإسلام، بل كان العرب ومن داخل دولهم القديمة، كالدولة النبطية والغسانية، وغيرها، قد شيدوا حضارات متقدمة. غير أن حالة التراجع والتفكك، وانتشار الجهل، و تواصل الاعتداءت من الخارج، الرومان من الغرب، والفرس من الشرق، هيّأ لنزول الوحي وإطلاق الثورة والتغيير، واستدامت مفاعيل هذه الثورة الحضارية لقرون طويلة وتغلغلت علومها انطلاقاً من الاندلس في القارة الاوروبية، والتي استمدت نهضتها العلمية مما أنجزها علماء العرب والمسلمين.
وظل العرب على هذه الحال حتى عادوا إلى ما هو أسوأ بكثير عما كانوه عشية ظهور الإسلام، ولا زالوا رغم كل محاولات الإصلاح والنهضة المهمة التي خاضها مصلحون وثوار ومفكرون. واوضاعهم اليوم تشبه أوضاعهم أيام الحملات الًصليبية، حيث تمكن االغزاة الأوروبيون، من تشتيتهم الى ممالك خاصة، و تحالفهم معهم وزجهم في حروب داخلية ضد بعضهم البعض.
رافقت نهضة أوروبا الحديثة، تناقضات صارخة وسياسات وحشية ضد الشعوب غير الأوروبية، تمثلت في غزو وإبادة شعوب، وإستغلال شعوب أخرى. في مرحلة متقدمة من تطورها نشأت طبقة وسطى واسعة في دولها، عززت النهضة وعمقتها، ومنحتها أبعاداً جديدة. لكن هذه البرجوازية ما لبثت أن تحولت إلى طبقة برجوازية كبيرة ووحش كاسر، ليس فقط ضد الشعوب الأخرى بل ضد فقرائها وبؤسائها، وخصوصا الطبقة العاملة في المجمعات الصناعية الضخمة. ونتج عن ذلك تصاعد الغضب، ونمو الوعي الثوري، وانفجار الانتفاضات والثورات، داخل الدول الاوروبية، وانطلاق المقاومة في الدول المستعمرة ، في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا بما فيه الوطن العربي. وظهرت أفكار واحلام وطوبيات حول عالم خال من الحروب والاستغلال والظلم، والفقر والعوز، وحققت شعوب كثيرة تحررها من الاستعمار ولكنها أخفقت في تحرير الانسان من تراث الكولونيالية والاستبداد والفقر. وتبلورت نظريات ونظريات مضادة، ونظريات تجمع بين عناصر في هذه النظريات. وحملت هذه النظريات والتصورات طبقات وحركات وأحزاب وشرائح اجتماعية واسعة. وحققت الشعوب، بنضالها، داخل دولها الرأسمالية إنجازات هامة في مجال الحقوق، والتنظيم النقابي والمهني والسياسي، وصدرت مراسيم تحمي هذه الحقوق وتوفر الرفاهية و الحماية الصحية.
وفي القرن العشرين ، انقسم العالم بين معسكر شيوعي او إشتراكي، ومعسكر رأسمالي. وفي كل معسكر تعددت التوجهات او التيارات التي كانت تحاول التخفيف من غلواء نظرية كل معسكر. البعض أراد إشتراكية معتدلة، والبعض أراد رأسمالية مخففة، اقل وحشية، او اكثر تجاوبا مع حاجات الناس. وخلال هذا حقبة هذا الصراع سادت فكرة المثال، أي الانموذج الذي يوجه أخلاق الفرد، كما ساد اليقين، والذي تحول مع الوقت الى دوغمائية قاتلة، دفعت الشعوب، لقاء ذلك، أثمانا باهظة.
سقط المعسكر الشيوعي، وصمد النظام الرأسمالي. وعمت الفوضى الفكرية والأخلاقية. نعم النظام الرأسمالي المتطرف لم يسقط ، ولكن تبين أن احتفائه المبكر بإعلان الإنتصار على المعسكر الشيوعي، ونهاية التاريخ، أوائل التسعينات من القرن العشرين، لم يكن الا تدشيناً لمرحلة رأسمالية اكثر توحشاً وبربرية، ومقدمة لأزمات مالية و أخلاقية وسياسية متلاحقة لهذا النظام .
على خلفية هذا التأزم الأخلاقي والمادي والسياسي، تصاعدت مظاهر العودة الى الدين من جهة، ومن جهة أخرى عاد الكثيرون لينفضوا الغبار عن كارل ماركس، ليعيدوا قراءة تحليله الفذ لديناميات النظام الرأسمالي، ليفهموا أولا لماذا تحولت الدول الشيوعية، التي ادعت أنها تستلهم نظريات ماركس، الى أنظمة شمولية استبدادية، وقاتلة للتطور الداخلي، وهيدالمراجعة التي ساعدتهم على إمعان النظر مجددا بالتحولات العميقة التي مرت بها الأنظمة الرأسمالية المتوحشة، والطبقات الاجتماعية المختلفة، خاصة الطبقة الوسطى والعاملة. وأيضا ليحددوا أن نظرية ماركس ليست ديناً، وانه لا يجوز إخضاع الواقع للنظرية. وأن الحرية ليست ترفاً، والديمقراطية التعددية وحرية الرأي، ليست كماليات، وأن الاخلاق لها مكان في الحياة السياسية. وأيضا ليفهموا أن الدين ليس شأنا خاصا بالفرد، وأن كانت حرية الاعتقاد والايمان كذلك. بل أيضا يجب الاعتراف بدور الدين في الشأن العام، من خلال فصل الدين عن الدولة، أو بمفهوم نظرية الفعل التواصلي، التي تقول بضرورة الحوار والتواصل بين المتدينين( المعتدلين) و العلمانيين ( المعتدلين) ، بدل النبذ أو التكفير المتبادل. وهي نظرية تعود إلى أحد أهم الفلاسفة الماركسيين النقديين الألمان المعاصرين، يورغن هابرماس، الذي تحول من علماني متشدد الى علماني معتدل ومنفتح منذ الثمانينات. ومع ذلك تجد بعض المثقفين العرب غير قادرين على التحرر من التبعية المطلقة للفكر العلماني الغربي المتشدد، وغير مواكبين للمراجعات الهامة للعلمانية التي قام بها عدد كبير من مثقفيه، في سياق نقد الحداثة وما بعد الحداثة. ومن ابرز المثقفين العرب، الذين تصدوا لهذه المسألة وقدموا إصافات نوعية، المفكر عزمي بشارة في مؤلفاته( ثلاث مجلدات) : " الدين والعلمانية في سياق تاريخي".
وفي العقد الأخير، عقد الثورات العربية المغدورة، وعقد تفشي السلطوية والشعبوية والعنصرية في الديمقراطيات الغربية، وتأزم الاقتصاد العالمي، وتدمير البيئة، وأخيرا جائحة الكورونا التي قلبت حياة العائلة البشرية برمتها رأساً على عقب، عاد الانسان ليطرح الأسئلة الكبرى، أسئلة الوجود والمعنى، والمستقبل، وهل بالأمكان إصلاح العالم أو تأسيس نظام أكثر عدلا، كبديل عن النظام الامبريالي وبديل عن الاستبداد والطغيان. وتتنوع الردود على هذه الأسئلة والتحديات، بين الاستسلام لليأس والكفر بكل شيئ، والقنوط والاستكانه، والثورة والتمرد. ويتساءل إنسان العالم الثالث، بمرارة، إزاء مصيره وحظه من التطور الذي استفادت منه نسبة كبيرة من البشرية، وبينما هو كان يتمرد ويثور، للحاق بالدول المتطورة، في مواجهة الاستبداد المحلي وأنظمة العجز والفساد، والمرتبط غالبا بالهيمنة الخارجية، يجد نفسه امام أنتكاس لا ثوراته فحسب، بل أيضاً إنتكاس النموذج الغربي الذي كان معجباً به وكارهاً له في الوقت ذاته.
مع ذلك لا يمكن تخيل تخلي الانسان عن الاشتباك مع هذه الأسئلة، وهذه المعضلات، خاصة الانسان المقهور، لانه يعيش العذاب يومياً الذي يمارسه القاهر ضده، وبالتالي ليس لديه خيار آخر. بل أننا نشهد عودة العواطف الأممية، عواطف التضامن، في إطار تقاطعية النضال المشترك، تجسيدا للوعي بوحدانية مصدر الاجحاف والسحق، الذي يعود إلى نظام واحد، رأسمالي ومستبد، متصارع في داخله على مناطق النفوذ والثروة. أما الأنظمة التابعة على كافة أنواع الحكم فيها، فهي ليست الا تجسيدا كاريكاتورياً لهذا النظام العالمي، تخدمه لقاء حماية نخبه الفاسدة المتوحشة ضد شعوبها. ولذلك ليس لهذا النظام أن يستقر طالما ظل الانسان المقهور ومن يعبر عنه في شكل تنظيم او حركة او مجموعة، يتمرد ويصرُّ على الحياة، ومستعد أن يواصل دفع ثمن حريته وأمنه.